لا أحد يستطيع أن ينُكر تأثر الفنون (سواء الفنون البصرية أو غيرها) حول العالم ببعضها بعضاً وبتيارات الفلسفة والتفكير المختلفة. سأكتب هنا شيئاً من رؤيتي عن فنون التشكيل في السودان. بالتحديد في فترة السنوات العشر الماضية. فالسودان كغيره من الأماكن لا ينفصل عن هذا التأثر. لكن، هذا التأثر يزيد أو ينحسر حسب توفر سبل المعرفة المختلفة. ولعل سبل المعرفة المتخصصة في مجال الفنون البصرية في فترات سابقة كانت شحيحة. لكن، كما يبدو لي، توفر الاجتهاد في الحصول عليها والاستفادة القصوى منها بالبحث والنقاش وإثارة الأسئلة حولها، ويبدو ذلك في تنوع الأعمال والكتابات عن التشكيل في سودان سبعينات القرن الماضي. لكن تغير الحال الآن، إلا مع أمثلة قليلة، فالبحث عن المعرفة في مجالات الفنون البصرية هذه الأيام يشبه إلى حد كبير الوجبات السريعة التي لا تُغني من جوع ثقافي أو معرفي. فهناك تفاكرٌ وحوارات، بل وخلاصات مفترضة من جنس "انتهاء الفن" (انتهاءً وليس موتاً)، كأبحاث لفلاسفة معاصرين اقتفوا فيها آثار هيجل وكتاباته عن انتهاء الفن، متفقين أو مختلفين معه. وأفكار كفكرة "اضطهاد الجمال" وإثارة الأسئلة حول الجمال كفكرة أساسية للفنون في مناهج الفلسفة الكلاسيكية. ومباحث فنون النساء وفنون الفيمينست كتجارب منفصلة (بتفرد خاماتها وفلسفاتها وارتباطها بحركات التحرر والحقوق النسوية) ومتصلة في نفس الوقت بما يحدث في عالم الفنون البصرية عامة. حتى نصل لعودة الآوب آرت(الاوبتياكال آرت) في مشهد الفنون البصرية اليومن، جميعها تيارات وتجارب وأفكار ومباحث بصرية جديرة بالوقوف عندها والاطلاع عليها، تنقيحها والاستفادة منها حسب متطلبات مجتمعاتنا.
حديثي عن تيارات بعينها لا يعني أنها الأفضل، لكن أظن أن بإمكانها أن تعمل على تحريك الأفكار وتساعد على اتخاذ مسارات جديدة لممارسة الفنون البصرية، خلاف الطرق المتبعة الآن في ساحة التشكيل السودانية. يظهر التأثر ببعض التيارات الجديدة عند بعض التشكيليين والتشكيليات (السودانيين والسودانيات). وقد تابعت خلال السنوات الماضية أعمال عدد مقدر من التشكيليين والتشكيليات، حيث أُتيحت لي فرصة رؤيتها كجزء من عملي في قالري السودان للفنون التشكيلية، "سودان آرتيستس قالري"، ومتابعتي لأخبار المعارض والنشاطات التشكيلية وصور الأعمال عن طريق الانترنيت. ففي أعمال التلوين، كمثال، أرى أن عدداً مقدراً من الأعمال يعتمد على الاجترار والتكرار لأسلوب واحد، هو أسلوب يعتمد على الصدفة في التلوين، وبالتحديد الأعمال التي يمكن تصنيفها تحت باب "التجريد" أو "التجريد التعبيري". حيث يتم سكب الألوان على الكنفاس أو الورق دون أن يكون للفنان أو الفنانة فكرة مسبَّقة لتنفيذ العمل. وهذه الطريقة في حد ذاتها ليست مرفوضة بالنسبة لي، لكن المرفوض عندي هو عدم وصولها في أغلب الأحوال لنتائج متفردة، وقد مارسها بعضهم/ن لسنوات. وعند مشاهدة الكثير من الأعمال يتملكني شعور، بأن صاحب أو صاحبة العمل كان/ت في حيرة وارتباك، في كيفية معالجة المساحة وفي استخدام الألوان ومعالجة الخطوط أو الكتل والفراغ في حالة النحت وحتى في أعمال كأعمال التصميم، كالشعارات وأغلفة الكتب، الإعلانات، الجرائد، العُملات النقدية ... إلخ. كما وفي أغلب الأوقات ينتهي الأمر بالركون للمُجَرَّب أو النتائج المتوقعة الخالية من المغامرة، والخوف من طَرْقِ الجديد والتجريب، سواء في أعمال التلوين أو غيرها.
من ضمن ملاحظاتي، استخدام خامات قد لا تخدم العمل المراد تنفيذه، فاختيار الخامة المناسبة من أساسيات نجاح الأعمال. ففي كثير من الأوقات تستخدم خامات السبب الوحيد لاستخدامها هو توفرها، ولا أستطيع هنا أن ألوم الفنان أو الفنانة في ذلك، لكن، لابد من الاجتهاد في إيجاد طرق للابتكار والتجريب والتفكير في الخامات قبل الشروع في العمل، والاستطلاع لمعرفة أي منها ستخدم العمل وإعطاء نتيجة أفضل. ولا يظهر من خلال الأعمال ذكاء التنفيذ واستمتاع الفنان أو الفنانة الذي يلازم الأعمال الناجحة في نظري، فتبدو الأعمال متكلفة "معسمة" غليظة على النظر، ما يُمَلِّك إحساساً بعدم صدق تلك الأعمال لدى المتلقي. هذا الأسلوب (أسلوب الصدفة) في تنفيذ الأعمال، في تقديري، يؤدي إلى طريق مقفول أمام من اختار أو اختارت هذا النوع من التكرار غير المبدع. أما النقل للتدريب أو التعلم فهو واحد من الدروس القديمة والمعروفة لتعلم التقنيات والأساليب، على أن يخرج الفنان أو تخرج الفنانة بأساليب وأفكار وتجارب متفردة في النهاية. أجد صعوبة بعض الأحيان في الفرز بين أعمال عدد من التشكيليين والتشكيليات، للتشابه الكبير في الأسلوب والموتيفات أو المفردات وفي بعض الأوقات حتى باليتة الألوان المستعملة! فينتفي بذلك عامل الابتكار والإدهاش والتمتع بعمل كل فنان أو فنانة على حده، فتبدو الأعمال وكأن مصدرها عقل واحد.
من الأشياء التي لفتت انتباهي هي "الموتيفات" المكررة ("مفردات التشكيل السوداني"!). فهي تظهر في عدد في عدد مهول من الأعمال توارثتها أجيال التشكيليين والتشكيليات واستمر تكرارها دون التعرض لها بالأسئلة والمراجعة، وكأنها "مقدسة" لا يمكن الحياد عنها كموتيفة "الزي القومي"، فتجد صوراً ورسومات لرجال يلبسون العمامة والجلباب الأبيض، أو الثوب بالنسبة للنساء، وكأنهما يمثلان كل شعوب السودان ومجموعاته الإثنية المختلفة! تبدو هذه المفردات أو الموتيفات (مثل التمساح، الثور، الطيور فوق الرؤوس، الحروف العربية، بجانب موتيفة "الزي القومي") وغيرها من الموتيفات المتكررة، حسب الأستروتايب المتعارف أو المتفق علية (ضمنياً!) بين أغلب التشكيليين والتشكيليات ومتذوقي التشكيل في السودان، واعتبارها مفردات تخص "التشكيل السوداني" وتظهر في أي عمل وبشكلٍ آلي. أرى أنها تكرار ونقل واعٍ (لأن بعضنا يختار النقل لمتابعة "سوق التشكيل") وغير واعٍ في أغلب الأوقات. ازدحام مفردات التشكيل السوداني، بجانب الخط العربي، يُبرر وجودها بأنه يؤكد انتماء هذا العمل أو ذاك لحقل "التشكيل السوداني"، وبدونها لا يمكن فرز هذا الانتماء، وكأنه (الانتماء) أهم من التجريب والبحث عن طرق مغايرة في أرض الإبداع البصري دون قيود أو حدود. في نظري، هذا التكرار لا يخلق أي تنوع خلاق أو أفكار جديدة تضاف لمباحث التشكيل في السودان، كما لا يعطي فرصة لنمو صوت متفرد صادق وحقيقي للفنان أو الفنانة.
لابد من الإشارة لانعدام أو شبه انعدام الأساس النظري المتين، حيث يكون من العسير الخروج برؤية واضحة للأعمال. فأغلب الأعمال تعبر عن "ما يطلبه المشاهدون" أو "ما يطلبه السوق"، وكأنها أنتجت لعائدها المادي في الأساس. كما وتعبر أغلبها عن نظرة "السائح المشتري" لنا (سودانيين وسودانيات) كذوات "غامضة" و"بدائية"، وتقوم أغلب هذه الأعمال بدور "التذكارات" على أكمل وجه. في ظني أن تعوُّد أغلب التشكيليين والتشكيليات على "المجاملة" وتطييب الخواطر، زاد أو ساعد على زيادة عُمر هذا النوع من الأعمال. بحيث أن النقد يكاد يكون معدوماً إلى يومنا هذا ولسنوات عديدة، بحيث تراكمت تجارب كثيرة دون تشريح أو نقد. وفي وجود هذا الكم الهائل من الإنتاج المكرر المتمدد لسنوات، أتخيل أنه لو تعرّضت هذه النوعية من الأعمال لأي نقد جاد لنسفها. والمؤسف حقيقة أن تمر مثلاً تجربة فنانين كعمر خيري/جورج إدوارد وحسين شريف وأسامة عبد الرحيم دون بحوث رصينة وتنقيب في أعمالهم وحياتهم. بالضرورة كانت ستساعد تشكيليي وتشكيليات اليوم في بحوثهم وبحوثهن البصرية. جانب آخر قد يقع عليه جزء من المسؤولية، وهو جفاف مصادر المعرفة في السودان (خصوصاً في مجال الفنون المغضوب عليها!) وبطء وصول المعلومات أو شبهة انعدامها في فترات، ساعد على استمرار دوامة "النقل" و"المحاكاة" والاجترار والتكرار. أعتقد أن وسائل الاتصال الحديثة يمكن أن تلعب دوراً مقدراً في فتح آفاق البحث والتنقيب وتحريك مياه ساحة التشكيل في السودان، وكسر الحاجز لتجريب الجديد والخروج من هذه الدوامة لمساحة أرحب وأوسع للإبداع، سواء كان في الخامات المستخدمة أو الأفكار.
إيمان شقاق
٢٠٠٨
حديثي عن تيارات بعينها لا يعني أنها الأفضل، لكن أظن أن بإمكانها أن تعمل على تحريك الأفكار وتساعد على اتخاذ مسارات جديدة لممارسة الفنون البصرية، خلاف الطرق المتبعة الآن في ساحة التشكيل السودانية. يظهر التأثر ببعض التيارات الجديدة عند بعض التشكيليين والتشكيليات (السودانيين والسودانيات). وقد تابعت خلال السنوات الماضية أعمال عدد مقدر من التشكيليين والتشكيليات، حيث أُتيحت لي فرصة رؤيتها كجزء من عملي في قالري السودان للفنون التشكيلية، "سودان آرتيستس قالري"، ومتابعتي لأخبار المعارض والنشاطات التشكيلية وصور الأعمال عن طريق الانترنيت. ففي أعمال التلوين، كمثال، أرى أن عدداً مقدراً من الأعمال يعتمد على الاجترار والتكرار لأسلوب واحد، هو أسلوب يعتمد على الصدفة في التلوين، وبالتحديد الأعمال التي يمكن تصنيفها تحت باب "التجريد" أو "التجريد التعبيري". حيث يتم سكب الألوان على الكنفاس أو الورق دون أن يكون للفنان أو الفنانة فكرة مسبَّقة لتنفيذ العمل. وهذه الطريقة في حد ذاتها ليست مرفوضة بالنسبة لي، لكن المرفوض عندي هو عدم وصولها في أغلب الأحوال لنتائج متفردة، وقد مارسها بعضهم/ن لسنوات. وعند مشاهدة الكثير من الأعمال يتملكني شعور، بأن صاحب أو صاحبة العمل كان/ت في حيرة وارتباك، في كيفية معالجة المساحة وفي استخدام الألوان ومعالجة الخطوط أو الكتل والفراغ في حالة النحت وحتى في أعمال كأعمال التصميم، كالشعارات وأغلفة الكتب، الإعلانات، الجرائد، العُملات النقدية ... إلخ. كما وفي أغلب الأوقات ينتهي الأمر بالركون للمُجَرَّب أو النتائج المتوقعة الخالية من المغامرة، والخوف من طَرْقِ الجديد والتجريب، سواء في أعمال التلوين أو غيرها.
من ضمن ملاحظاتي، استخدام خامات قد لا تخدم العمل المراد تنفيذه، فاختيار الخامة المناسبة من أساسيات نجاح الأعمال. ففي كثير من الأوقات تستخدم خامات السبب الوحيد لاستخدامها هو توفرها، ولا أستطيع هنا أن ألوم الفنان أو الفنانة في ذلك، لكن، لابد من الاجتهاد في إيجاد طرق للابتكار والتجريب والتفكير في الخامات قبل الشروع في العمل، والاستطلاع لمعرفة أي منها ستخدم العمل وإعطاء نتيجة أفضل. ولا يظهر من خلال الأعمال ذكاء التنفيذ واستمتاع الفنان أو الفنانة الذي يلازم الأعمال الناجحة في نظري، فتبدو الأعمال متكلفة "معسمة" غليظة على النظر، ما يُمَلِّك إحساساً بعدم صدق تلك الأعمال لدى المتلقي. هذا الأسلوب (أسلوب الصدفة) في تنفيذ الأعمال، في تقديري، يؤدي إلى طريق مقفول أمام من اختار أو اختارت هذا النوع من التكرار غير المبدع. أما النقل للتدريب أو التعلم فهو واحد من الدروس القديمة والمعروفة لتعلم التقنيات والأساليب، على أن يخرج الفنان أو تخرج الفنانة بأساليب وأفكار وتجارب متفردة في النهاية. أجد صعوبة بعض الأحيان في الفرز بين أعمال عدد من التشكيليين والتشكيليات، للتشابه الكبير في الأسلوب والموتيفات أو المفردات وفي بعض الأوقات حتى باليتة الألوان المستعملة! فينتفي بذلك عامل الابتكار والإدهاش والتمتع بعمل كل فنان أو فنانة على حده، فتبدو الأعمال وكأن مصدرها عقل واحد.
من الأشياء التي لفتت انتباهي هي "الموتيفات" المكررة ("مفردات التشكيل السوداني"!). فهي تظهر في عدد في عدد مهول من الأعمال توارثتها أجيال التشكيليين والتشكيليات واستمر تكرارها دون التعرض لها بالأسئلة والمراجعة، وكأنها "مقدسة" لا يمكن الحياد عنها كموتيفة "الزي القومي"، فتجد صوراً ورسومات لرجال يلبسون العمامة والجلباب الأبيض، أو الثوب بالنسبة للنساء، وكأنهما يمثلان كل شعوب السودان ومجموعاته الإثنية المختلفة! تبدو هذه المفردات أو الموتيفات (مثل التمساح، الثور، الطيور فوق الرؤوس، الحروف العربية، بجانب موتيفة "الزي القومي") وغيرها من الموتيفات المتكررة، حسب الأستروتايب المتعارف أو المتفق علية (ضمنياً!) بين أغلب التشكيليين والتشكيليات ومتذوقي التشكيل في السودان، واعتبارها مفردات تخص "التشكيل السوداني" وتظهر في أي عمل وبشكلٍ آلي. أرى أنها تكرار ونقل واعٍ (لأن بعضنا يختار النقل لمتابعة "سوق التشكيل") وغير واعٍ في أغلب الأوقات. ازدحام مفردات التشكيل السوداني، بجانب الخط العربي، يُبرر وجودها بأنه يؤكد انتماء هذا العمل أو ذاك لحقل "التشكيل السوداني"، وبدونها لا يمكن فرز هذا الانتماء، وكأنه (الانتماء) أهم من التجريب والبحث عن طرق مغايرة في أرض الإبداع البصري دون قيود أو حدود. في نظري، هذا التكرار لا يخلق أي تنوع خلاق أو أفكار جديدة تضاف لمباحث التشكيل في السودان، كما لا يعطي فرصة لنمو صوت متفرد صادق وحقيقي للفنان أو الفنانة.
لابد من الإشارة لانعدام أو شبه انعدام الأساس النظري المتين، حيث يكون من العسير الخروج برؤية واضحة للأعمال. فأغلب الأعمال تعبر عن "ما يطلبه المشاهدون" أو "ما يطلبه السوق"، وكأنها أنتجت لعائدها المادي في الأساس. كما وتعبر أغلبها عن نظرة "السائح المشتري" لنا (سودانيين وسودانيات) كذوات "غامضة" و"بدائية"، وتقوم أغلب هذه الأعمال بدور "التذكارات" على أكمل وجه. في ظني أن تعوُّد أغلب التشكيليين والتشكيليات على "المجاملة" وتطييب الخواطر، زاد أو ساعد على زيادة عُمر هذا النوع من الأعمال. بحيث أن النقد يكاد يكون معدوماً إلى يومنا هذا ولسنوات عديدة، بحيث تراكمت تجارب كثيرة دون تشريح أو نقد. وفي وجود هذا الكم الهائل من الإنتاج المكرر المتمدد لسنوات، أتخيل أنه لو تعرّضت هذه النوعية من الأعمال لأي نقد جاد لنسفها. والمؤسف حقيقة أن تمر مثلاً تجربة فنانين كعمر خيري/جورج إدوارد وحسين شريف وأسامة عبد الرحيم دون بحوث رصينة وتنقيب في أعمالهم وحياتهم. بالضرورة كانت ستساعد تشكيليي وتشكيليات اليوم في بحوثهم وبحوثهن البصرية. جانب آخر قد يقع عليه جزء من المسؤولية، وهو جفاف مصادر المعرفة في السودان (خصوصاً في مجال الفنون المغضوب عليها!) وبطء وصول المعلومات أو شبهة انعدامها في فترات، ساعد على استمرار دوامة "النقل" و"المحاكاة" والاجترار والتكرار. أعتقد أن وسائل الاتصال الحديثة يمكن أن تلعب دوراً مقدراً في فتح آفاق البحث والتنقيب وتحريك مياه ساحة التشكيل في السودان، وكسر الحاجز لتجريب الجديد والخروج من هذه الدوامة لمساحة أرحب وأوسع للإبداع، سواء كان في الخامات المستخدمة أو الأفكار.
إيمان شقاق
٢٠٠٨