1:
( الطيور مشردة في السموات،
ليس لها أن تحط علي الأرض،
ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح!
ربما تتنزل...
كي تستريح دقائق...
فوق النخيل- النجيل- التماثيل-
أعمدة الكهرباء
حواف الشبابيك والمشربيات
والأسطح الخرسانية.
( اهدأ، ليلتقط القلب تنهيدة،
والفم العذب تغريدة،
والقط الرزق.. )
سرعان ما تتفزع..
من نقلة الرجل،
من نبلة الطفل،
من ميلة الظل عبر الحوائط،
من حصوات الصياح!
*** *** ***
القصيدة، لربما لا يسعها، كلها، هذا الحيز الذي نكتب فيه الآن، لكن، ما تناوله أمل دنقل في قصيدته عن أحوال الطيور وأطوارها، يجعلنا، لمحض الفهم، أن نورد خاتمة قصيدته، برغم أهمية ( لوحات ) القصيدة بالغة الدلالة والمعني، يستطرد أمل فيقول:
( والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس،
مرت طمأنينة العيش فوق مناسرها..
فانتخت،
وبأعينها.. فارتخت،
وارتضت أن تقاقئ حول الطعام المتاح
ما الذي يتبقي لها.. غير سكينة الذبح،
غير انتظار النهاية.
إن اليد الآدمية.. واهبة القمح
تعرف كيف تسن السلاح!
*** *** ***
الطيور.. الطيور
تحتوي الأرض جثمانها.. في السقوط الأخير!
والطيور التي لا تطير..
طوت الريش، واستسلمت
هل تري علمت
أن عمر الجناح قصير.. قصير؟!الجناح حياة
والجناح ردى.
والجناح نجاة.
والجناح.. سدى!
- قصيدة: الطيور، أمل دنقل
-2:
( وللطيور في حنانها مسلك فريد.
هي صورته في الفضاء، وشكله الذي ارتضاه حين
يحن إلي التحليق.
وللحنان في البشر عدد من المنازل،
في الطير منزلة واحدة يولد العصفور عليها
ويموت،
اذ أن الطير حاذق وله من البصيرة ما للأنبياء،
بل قل فوق ذلك. ولولا الخوف من الشرك
والإلتباس
لأطلق الفقهاء لفظة ( حنان ) علي كامل قبيلة
الطير.
والطيور في رحلة من الحنان لا تنقطع،
حتي لقد شحب لونها ودقت ملامحها وصار
صوتها إشارة.
هذا ما أدخلها في زمرة الغربة والاستيحاش.
والأولي- أي الغربة – ما هي إلا البيت الذي
استأجره الحنان في قلب الكائن الحي.
ومن أراد رؤية الحنان لبرهة،
انتظر حتي يقع عصفور في شرك، فأسرع
ونظر عينيه.
*** *** ***
والحنان حين يشتد وتستعر أسبابه ودواعيه،
يقف حائلا والإفصاح، عدوا لدودا والبيان
لذلك، نحن لا نفهم لغة الطير.
عاطف خيري: الظنون :
3:
إضافة إلي ما لدي، حيث الجناح ردى، وهو نفسه سدى، والحنان الذي قاربه ليكون معني عميقا في الحياة، وفي مماته أيضا، وفيما رأه حميدا فيه، حيث يعيش معنا الحياة، في أطوارها جميعا، إضافة لهذا كله، فأن للطير لغة نعرفها ونفهمها، له أيضا مواضعه البصرية التي تراها العين ويستشعرها الوجدان الذكي، فتكون مرئية، نراها حين تكون حالاتها موسومة في العمل التشكيلي. هذه الرؤية التشكيلية، هي نفسها، الرؤية التي تشكلت في بصيرة ووعي الفنانة التشكيلية إيمان شقاق منذ زمن ليس بالقصير، حين إنتبهت أنا إلي تناولاتها العديدة لأحوال الطيور، وهي في فضاءات أطوارها جميعها وفي سمت التشكيل. وكيف، في ذلك الحال كله، رأيتهما معا، الفنانة وطيورها، وهما في تلك البرهة شديدة التوهج في عمق اللوحة، في اطلالتها أيضا. الطيور، عادة، لا تسأل، لكنها تعرف. ننتظرها حتي تكون في حال تحليقها أو لدي جلوسها، حين تجالس ملامح الوقت فتطفو نجوم السماء علي الشرفة، حين ترمي عينيها في طين الأرض أو في جسد الشجرة، فتزهر النباتات كزغب أطفال شقر يرتمون في اللون لئلا يتأخر ( الشكل ) عنها وعنا، ذلك في سمت اللوحة أيضا. تلك ظلالا وأضواء، مثلما أطياف تلتمع في عصبة اللون والخط والشكل. ترى، هل يبدأ سجال المفاهيم من هنا، من هنا بالذات؟! شيئا ما رايته هنا، يبرق مثلما حزمة ضوء، فيما بين الكتابة واللون في ارتعاشاته علي صفحة اللوحة. سألتها نفسي: هل الطيور تحيلنا، وهي في الجوهر من اللوحة، ولو بإشارة خفيفة وفي لطفها، إلي صاحب اللوحة، منشئها أعني؟! هذا صنيع الرسم بنا يا أبنة شقاق: فالنجوم تغدو، لدى الرسم، سلال لؤلؤ ( مسكوبة ) في ثنايا الجسد الرحيم للوحة، ومعلوما، للطيور ولنا، أن السماء زرقاء. هكذا، في كل مرة، كنت أراني، في تجوالي العديد، وتأملي في طيور إيمان، وجميعها، تلك اللوحات في حالات الطيور وجميعها بالأسود علي خلفيات بيضاء، ليلا يتقدم هنا أو هناك، لكنها طيورها السوداء والبيضاء، تضئ ليلها، تفعل ذلك وهي في تجليات أطوارها في ذات وقتها هي. تزيح عنها العتمة، ورويدا رويدا، تكون الطيور نفسها هي البؤرة الضوء، في برهتها هي. ويا أيتها التجربة، ماذا بمقدورك أن تفعلي للعين البصيرة، والأصابع القادرة، وهي من الخشية في الأبعدين!
لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، و... تقول!
4:
إيمان شقاق، ترى وتكتب ما تراه.
(النداء الآخير)، هي لوحة الفنان إبراهيم الصلحي. زارتها إيمان شقاق، فكتبت رؤيتها عنها بالأنجليزية وترجمتها للعربية عزة نور الدين*. اللوحة عرضت بمتحف الشارقة للفنون كجزء من معرض ( مسيرة قرن: إضاءات من مؤسسة بارجيل للفنون )، وعرضت، إضافة لمقتنيات وأعمال من مؤسسة بارجيل، أعمال كمالا إسحق، حسين شريف، وأحمد شبرين. تقول إيمان إنها شرعت تزور اللوحة كل يوم تقريبا، وتقول: ( ألوانها خافتة بجانب سكون إيقاعها وأشكالها الدقيقة الرقيقة. أري أنها لوحة مليئة بالسكينة، علي الرغم من أنها تعج بالحياة، يمكن سماعها ومشاهدتها. ( النداء الأخير ) تشبه لمسة لطيفة، كما وأنها تجذب الناظر لها بهدوء ليكون بقربها. أغلب الكتابات التي قرأتها في ما يتعلق بهذه اللوحة كانت تعتني ب (القناع الإفريقي) في مركز اللوحة، وهي نقطة محورية، لا أنفي ذلك، لكني أود أن أذكر بعض المفردات الأخري التي تظهر في اللوحة، وأرى أنها مؤثرة بنفس المقدار )*.
رأت فيها طيورا أربعة مخبأة في متن اللوحة، لأنها سديم مخبأ في عزلته، وسرعان ما يلتهب في مواضع العتمة في ذلك الخبأ كله، فيغدو مرئيا وإن بشكل خافت، أو قل أنه خجول. سديم يتصاعد في هيئة ملائكة صغار من اللون والضوء وبعض عتمة، لكن ثمة ومضات نزاعات للإشارات، لكنها في غموضها الخجل، وأيضا تؤمض، تؤمض فتراها إيمان، توسع حدقتيها بقوة الوعي أو اللاوعي أحيانا، ثم تمد أصابعها، أصابع الرؤية عندها، محاولة الإمساك بطير ما، ( مخبي )، بقصدية من الرسام لا شك، لكنها تراه، مرة محلقة بخفة، ومرة جالسة بهدوء الطبيبة، وكأن الريش منها يلامس الجسد، وبصيرة إيمان هنا، بالذات هنا، تنسحب، بغتة، كمن مست جمرة من الجحيم، لكنها، في يقين بصيرتها، تري الطيور الأربعة المخبأة في لوحة الصلحي. حتي ترينا ما رأت، قسمت اللوحة إلي أربع أقسام هي مواضع الطيور ونظرتها. ولكن، تري ما هو مقصد مبتدع اللوحة، خالقها هي، بألوانها وطيورها، وهي في إختلاطها الغريب، كيف له أن يخبئ عنا، نحن الناظرون إلي اللوحة، تلك الطيور التي إعترضت رؤية إيمان وهي تنظر للوحة في برهة إكتمالها، أو لنقل في هيئتها حيث تركها الصلحي، مقدمها، لنا حتي نراها، ثم لتراها، أيضا، الفنانة إيمان فجعلتها في هذا الخلق الجديد؟!
كانت طيورها هي الرؤية في شأن الطيور، حين ظلت تنشر رسوماتها للطيور قبل نظرها وتأملها إلي لوحة الصلحي، طيورها، إذن، كانت هي رؤيتها إلي الطيور، طيورها هي رؤياها، كما رأيتها، تشكلت طيورها في مخيلتها، تشكيلا ورؤيا، حاضرة في وعيها الجمالي، أفق شاسع من إشارات وتأملات ويقينيات.
ولكن، ما هذه المواجهة العادلة فيما بين المادة واللون؟! لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، و... تؤشر.
5:
شقاق، نزولا علي رغبتها في أن تجعلنا في رؤية لوحة الصلحي قسمتها إلي أربعة، كل قسم به طير أو طيور، رأتها هي ورغبت أن ترينا لها، فكتبت:
أ:
( عصفور دوري منزلي، هذه العصافير الصغيرة معروفة في السودان بأسم " طيور الجنة "، الذكور منها لونها يميل للحمرة، وباللوحة يظهر هذا العصفور المائل للحمرة بجوار القناع الأسود الصغير في وسط اللوحة. في بعض أجزاء السودان يعتقد الناس أن الشخص الميت يرجع علي هيئة عصافير الجنة إذا كان طيب السيرة ).
ب:
تمضي شقاق لتقول عن الطير الثاني في اللوحة فتقول: ( في وسط اللوحة، وإلي الجانب الأيسر من الدائرة مركز اللوحة نري أن الصلحي قام برسم مبسط لطائر غينيا " جداد الوادي/ الدجاج الحبشي"،
أحتفظ بالرسم بزخارف الطائر الجميلة وتفاصيلها المعقدة والمحبوبة في آن. يظهر الطائر وكأنه يخرج عن الدائرة في منتصف اللوحة متجها لليسار وكأنه يكمل قوس الدائرة من هذه الجهة ).
ج:
الطائر الثالث في اللوحة:( تظهر فيه حمامة صغيرة راقصة علي الجزء العلوي الأيمن من اللوحة، ذكرتني طفولتي، وقد كان لكل جدة، علي أقل تقدير وحسب من زرتهن، عدد من الحمامات الراقصة في أسراب الحمام الخاصة بهن. للحمام الراقص ذيل كثيف وريشات تغطي الأقدام، وتقف الحمامات، في أغلب الأحوال، بصورة فيها إعتداد، وتظهر حمامة الصلحي بنفس الوصف).
د:
تكتب شقاق رؤيتها للطيور الأخري في اللوحة:
( حمائم الحداد، وكما نسميها في السودان " قمرية أو قمري. تظهر واحدة بلون أزرق فاتح، واثنتين بنفس لون الخلفية لكنها تظهر بنفس لون الخلفية لكنها تظهر بخطوط رفيعة، جميعها تحط علي الجزء العلوي من النص المكتوب علي الزاوية اليمني من اللوحة ).
6:
هكذا، قد عرفناها، رؤية شقاق للطيور كما في تصاويرها التي شرعت في رسمها، بدأب وحب، قبل أن ترينا طيور الصلحي في لوحته ( النداء الأخير )، ولست أدري، بعد، لماذا هو الأخير! الآن، وقد رأينا رؤيتها لطيورها هي، ثم لطيور الصلحي. تلك الطيور، جعلها الصلحي في جفون اللوحة، لم يضفي عليها الكثير من الألوان، بل أراها وقد جعلها في العتمة، رياشها ظلالها، والظلال تنحو إلي نجاة اللون إذ يغدو بعض شروق وضوء، لكنه هنا نراه خفيفا وهينا، فعلها الصلحي حين جعل طيوره في خجلها وسكينتها، ولكن، من أطلقها تحلق تحليقها في الفضاءات الوسيعات، وماذا رأت في اللوحة؟ تقول شقاق:( أري أن اللوحة تظهر السودان بصورة حميمة، وتحتفي بالحياة في احتفالها بالطيور، وتظهر مدي ارتباطنا بها. فالطيور من أكثر الحيوانات المحببة، وتظهر هذه المحبة في الأغاني العاطفية والوطنية وفي القصائد، اللوحات، وفي أغاني وألعاب الأطفال، في الأحاجي والكتابات النوبية القديمة والزخارف والتطريز، لنا معها علاقة قوية تتجاوز الحياة إلي الموت وما بعده. أنظروا اللوحة ربما عثرتم علي طيور أخري لم أذكرها)*. شقاق تشبثت بحريتها، ثم أخذت وضع القراءة والتأويل. السديم يحتدم في سطح اللوحة، ويضج في أعماقها العديدة، جلست هي في إنعطاف الريح، لكأنها غدت في مستوي عينين شاخصتين في وجهة الألوان وإشاراتها، وفي الإشارات، دائما، غموض ودثار محرق، نائيا ومتخفيا في العتمة، لكنه يود أن يكون مرئيا. وليس كل إنطباع شهقة صريحة للبوح والمكابدات، وللفتنة هنا، وجه الفنانة وقلبها، هما معا، بصيرتها المليئة بألوان الغابة بلا حياد ولا مواربة، تتماهي، في عمق رؤياها، برياش الطير واجنحة الفراشات وجنيات البحر والرمل والقواقع، عالم من الألوان. أحذري إذن، يا بنت شقاق، بقدرك المستطاع، جنة التقديس:
أريتنا ما رأيت
قلت ما تحبين لمن يستحقون.
في الولادة والحياة والموت
ثمة ذاكرة بصرية.
ولدي الطيور رأيت التجربة/ ليس من غير دلالة/ تلك العتمة المتوارية في الضوء الشحيح/ أنكشفت أطوار الطيور الآن.
هي تحية إذن، للفنان وللوحة وإليك، وللألوان منها نصيب، كلها الآن في الضوء!
لآ، لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، أننا سنراها.
---------------------------------------------
* الإقتباسات والإشارات من مقال إيمان شقاق، بملف ( الممر ) بجريدة السوداني الجمعة 21/9/2018م.
* لوحات الطيور للفنانة إيمان شقاق - بالحبر الأسود- مرسومة من تصاوير عالم الأحياء أبوبكر محمد عبدالحليم، وقد كان قد التقطها خلال رحلاته العلمية في مناطق السودان المختلفة الغنية بالطيور. أبوبكر-كما يعرف نفسه- عالم أحياء وتشمل اهتماماته الحفاظ على الحياة البرية وتوثيق مشاهداته من خلال التصوير. مهتم بشكل رئيسي بالزواحف والبرمائيات والعقارب والطيور والثديات الصغيرة وعلم الحشرات بشكل عام.
( الطيور مشردة في السموات،
ليس لها أن تحط علي الأرض،
ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح!
ربما تتنزل...
كي تستريح دقائق...
فوق النخيل- النجيل- التماثيل-
أعمدة الكهرباء
حواف الشبابيك والمشربيات
والأسطح الخرسانية.
( اهدأ، ليلتقط القلب تنهيدة،
والفم العذب تغريدة،
والقط الرزق.. )
سرعان ما تتفزع..
من نقلة الرجل،
من نبلة الطفل،
من ميلة الظل عبر الحوائط،
من حصوات الصياح!
*** *** ***
القصيدة، لربما لا يسعها، كلها، هذا الحيز الذي نكتب فيه الآن، لكن، ما تناوله أمل دنقل في قصيدته عن أحوال الطيور وأطوارها، يجعلنا، لمحض الفهم، أن نورد خاتمة قصيدته، برغم أهمية ( لوحات ) القصيدة بالغة الدلالة والمعني، يستطرد أمل فيقول:
( والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس،
مرت طمأنينة العيش فوق مناسرها..
فانتخت،
وبأعينها.. فارتخت،
وارتضت أن تقاقئ حول الطعام المتاح
ما الذي يتبقي لها.. غير سكينة الذبح،
غير انتظار النهاية.
إن اليد الآدمية.. واهبة القمح
تعرف كيف تسن السلاح!
*** *** ***
الطيور.. الطيور
تحتوي الأرض جثمانها.. في السقوط الأخير!
والطيور التي لا تطير..
طوت الريش، واستسلمت
هل تري علمت
أن عمر الجناح قصير.. قصير؟!الجناح حياة
والجناح ردى.
والجناح نجاة.
والجناح.. سدى!
- قصيدة: الطيور، أمل دنقل
-2:
( وللطيور في حنانها مسلك فريد.
هي صورته في الفضاء، وشكله الذي ارتضاه حين
يحن إلي التحليق.
وللحنان في البشر عدد من المنازل،
في الطير منزلة واحدة يولد العصفور عليها
ويموت،
اذ أن الطير حاذق وله من البصيرة ما للأنبياء،
بل قل فوق ذلك. ولولا الخوف من الشرك
والإلتباس
لأطلق الفقهاء لفظة ( حنان ) علي كامل قبيلة
الطير.
والطيور في رحلة من الحنان لا تنقطع،
حتي لقد شحب لونها ودقت ملامحها وصار
صوتها إشارة.
هذا ما أدخلها في زمرة الغربة والاستيحاش.
والأولي- أي الغربة – ما هي إلا البيت الذي
استأجره الحنان في قلب الكائن الحي.
ومن أراد رؤية الحنان لبرهة،
انتظر حتي يقع عصفور في شرك، فأسرع
ونظر عينيه.
*** *** ***
والحنان حين يشتد وتستعر أسبابه ودواعيه،
يقف حائلا والإفصاح، عدوا لدودا والبيان
لذلك، نحن لا نفهم لغة الطير.
عاطف خيري: الظنون :
3:
إضافة إلي ما لدي، حيث الجناح ردى، وهو نفسه سدى، والحنان الذي قاربه ليكون معني عميقا في الحياة، وفي مماته أيضا، وفيما رأه حميدا فيه، حيث يعيش معنا الحياة، في أطوارها جميعا، إضافة لهذا كله، فأن للطير لغة نعرفها ونفهمها، له أيضا مواضعه البصرية التي تراها العين ويستشعرها الوجدان الذكي، فتكون مرئية، نراها حين تكون حالاتها موسومة في العمل التشكيلي. هذه الرؤية التشكيلية، هي نفسها، الرؤية التي تشكلت في بصيرة ووعي الفنانة التشكيلية إيمان شقاق منذ زمن ليس بالقصير، حين إنتبهت أنا إلي تناولاتها العديدة لأحوال الطيور، وهي في فضاءات أطوارها جميعها وفي سمت التشكيل. وكيف، في ذلك الحال كله، رأيتهما معا، الفنانة وطيورها، وهما في تلك البرهة شديدة التوهج في عمق اللوحة، في اطلالتها أيضا. الطيور، عادة، لا تسأل، لكنها تعرف. ننتظرها حتي تكون في حال تحليقها أو لدي جلوسها، حين تجالس ملامح الوقت فتطفو نجوم السماء علي الشرفة، حين ترمي عينيها في طين الأرض أو في جسد الشجرة، فتزهر النباتات كزغب أطفال شقر يرتمون في اللون لئلا يتأخر ( الشكل ) عنها وعنا، ذلك في سمت اللوحة أيضا. تلك ظلالا وأضواء، مثلما أطياف تلتمع في عصبة اللون والخط والشكل. ترى، هل يبدأ سجال المفاهيم من هنا، من هنا بالذات؟! شيئا ما رايته هنا، يبرق مثلما حزمة ضوء، فيما بين الكتابة واللون في ارتعاشاته علي صفحة اللوحة. سألتها نفسي: هل الطيور تحيلنا، وهي في الجوهر من اللوحة، ولو بإشارة خفيفة وفي لطفها، إلي صاحب اللوحة، منشئها أعني؟! هذا صنيع الرسم بنا يا أبنة شقاق: فالنجوم تغدو، لدى الرسم، سلال لؤلؤ ( مسكوبة ) في ثنايا الجسد الرحيم للوحة، ومعلوما، للطيور ولنا، أن السماء زرقاء. هكذا، في كل مرة، كنت أراني، في تجوالي العديد، وتأملي في طيور إيمان، وجميعها، تلك اللوحات في حالات الطيور وجميعها بالأسود علي خلفيات بيضاء، ليلا يتقدم هنا أو هناك، لكنها طيورها السوداء والبيضاء، تضئ ليلها، تفعل ذلك وهي في تجليات أطوارها في ذات وقتها هي. تزيح عنها العتمة، ورويدا رويدا، تكون الطيور نفسها هي البؤرة الضوء، في برهتها هي. ويا أيتها التجربة، ماذا بمقدورك أن تفعلي للعين البصيرة، والأصابع القادرة، وهي من الخشية في الأبعدين!
لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، و... تقول!
4:
إيمان شقاق، ترى وتكتب ما تراه.
(النداء الآخير)، هي لوحة الفنان إبراهيم الصلحي. زارتها إيمان شقاق، فكتبت رؤيتها عنها بالأنجليزية وترجمتها للعربية عزة نور الدين*. اللوحة عرضت بمتحف الشارقة للفنون كجزء من معرض ( مسيرة قرن: إضاءات من مؤسسة بارجيل للفنون )، وعرضت، إضافة لمقتنيات وأعمال من مؤسسة بارجيل، أعمال كمالا إسحق، حسين شريف، وأحمد شبرين. تقول إيمان إنها شرعت تزور اللوحة كل يوم تقريبا، وتقول: ( ألوانها خافتة بجانب سكون إيقاعها وأشكالها الدقيقة الرقيقة. أري أنها لوحة مليئة بالسكينة، علي الرغم من أنها تعج بالحياة، يمكن سماعها ومشاهدتها. ( النداء الأخير ) تشبه لمسة لطيفة، كما وأنها تجذب الناظر لها بهدوء ليكون بقربها. أغلب الكتابات التي قرأتها في ما يتعلق بهذه اللوحة كانت تعتني ب (القناع الإفريقي) في مركز اللوحة، وهي نقطة محورية، لا أنفي ذلك، لكني أود أن أذكر بعض المفردات الأخري التي تظهر في اللوحة، وأرى أنها مؤثرة بنفس المقدار )*.
رأت فيها طيورا أربعة مخبأة في متن اللوحة، لأنها سديم مخبأ في عزلته، وسرعان ما يلتهب في مواضع العتمة في ذلك الخبأ كله، فيغدو مرئيا وإن بشكل خافت، أو قل أنه خجول. سديم يتصاعد في هيئة ملائكة صغار من اللون والضوء وبعض عتمة، لكن ثمة ومضات نزاعات للإشارات، لكنها في غموضها الخجل، وأيضا تؤمض، تؤمض فتراها إيمان، توسع حدقتيها بقوة الوعي أو اللاوعي أحيانا، ثم تمد أصابعها، أصابع الرؤية عندها، محاولة الإمساك بطير ما، ( مخبي )، بقصدية من الرسام لا شك، لكنها تراه، مرة محلقة بخفة، ومرة جالسة بهدوء الطبيبة، وكأن الريش منها يلامس الجسد، وبصيرة إيمان هنا، بالذات هنا، تنسحب، بغتة، كمن مست جمرة من الجحيم، لكنها، في يقين بصيرتها، تري الطيور الأربعة المخبأة في لوحة الصلحي. حتي ترينا ما رأت، قسمت اللوحة إلي أربع أقسام هي مواضع الطيور ونظرتها. ولكن، تري ما هو مقصد مبتدع اللوحة، خالقها هي، بألوانها وطيورها، وهي في إختلاطها الغريب، كيف له أن يخبئ عنا، نحن الناظرون إلي اللوحة، تلك الطيور التي إعترضت رؤية إيمان وهي تنظر للوحة في برهة إكتمالها، أو لنقل في هيئتها حيث تركها الصلحي، مقدمها، لنا حتي نراها، ثم لتراها، أيضا، الفنانة إيمان فجعلتها في هذا الخلق الجديد؟!
كانت طيورها هي الرؤية في شأن الطيور، حين ظلت تنشر رسوماتها للطيور قبل نظرها وتأملها إلي لوحة الصلحي، طيورها، إذن، كانت هي رؤيتها إلي الطيور، طيورها هي رؤياها، كما رأيتها، تشكلت طيورها في مخيلتها، تشكيلا ورؤيا، حاضرة في وعيها الجمالي، أفق شاسع من إشارات وتأملات ويقينيات.
ولكن، ما هذه المواجهة العادلة فيما بين المادة واللون؟! لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، و... تؤشر.
5:
شقاق، نزولا علي رغبتها في أن تجعلنا في رؤية لوحة الصلحي قسمتها إلي أربعة، كل قسم به طير أو طيور، رأتها هي ورغبت أن ترينا لها، فكتبت:
أ:
( عصفور دوري منزلي، هذه العصافير الصغيرة معروفة في السودان بأسم " طيور الجنة "، الذكور منها لونها يميل للحمرة، وباللوحة يظهر هذا العصفور المائل للحمرة بجوار القناع الأسود الصغير في وسط اللوحة. في بعض أجزاء السودان يعتقد الناس أن الشخص الميت يرجع علي هيئة عصافير الجنة إذا كان طيب السيرة ).
ب:
تمضي شقاق لتقول عن الطير الثاني في اللوحة فتقول: ( في وسط اللوحة، وإلي الجانب الأيسر من الدائرة مركز اللوحة نري أن الصلحي قام برسم مبسط لطائر غينيا " جداد الوادي/ الدجاج الحبشي"،
أحتفظ بالرسم بزخارف الطائر الجميلة وتفاصيلها المعقدة والمحبوبة في آن. يظهر الطائر وكأنه يخرج عن الدائرة في منتصف اللوحة متجها لليسار وكأنه يكمل قوس الدائرة من هذه الجهة ).
ج:
الطائر الثالث في اللوحة:( تظهر فيه حمامة صغيرة راقصة علي الجزء العلوي الأيمن من اللوحة، ذكرتني طفولتي، وقد كان لكل جدة، علي أقل تقدير وحسب من زرتهن، عدد من الحمامات الراقصة في أسراب الحمام الخاصة بهن. للحمام الراقص ذيل كثيف وريشات تغطي الأقدام، وتقف الحمامات، في أغلب الأحوال، بصورة فيها إعتداد، وتظهر حمامة الصلحي بنفس الوصف).
د:
تكتب شقاق رؤيتها للطيور الأخري في اللوحة:
( حمائم الحداد، وكما نسميها في السودان " قمرية أو قمري. تظهر واحدة بلون أزرق فاتح، واثنتين بنفس لون الخلفية لكنها تظهر بنفس لون الخلفية لكنها تظهر بخطوط رفيعة، جميعها تحط علي الجزء العلوي من النص المكتوب علي الزاوية اليمني من اللوحة ).
6:
هكذا، قد عرفناها، رؤية شقاق للطيور كما في تصاويرها التي شرعت في رسمها، بدأب وحب، قبل أن ترينا طيور الصلحي في لوحته ( النداء الأخير )، ولست أدري، بعد، لماذا هو الأخير! الآن، وقد رأينا رؤيتها لطيورها هي، ثم لطيور الصلحي. تلك الطيور، جعلها الصلحي في جفون اللوحة، لم يضفي عليها الكثير من الألوان، بل أراها وقد جعلها في العتمة، رياشها ظلالها، والظلال تنحو إلي نجاة اللون إذ يغدو بعض شروق وضوء، لكنه هنا نراه خفيفا وهينا، فعلها الصلحي حين جعل طيوره في خجلها وسكينتها، ولكن، من أطلقها تحلق تحليقها في الفضاءات الوسيعات، وماذا رأت في اللوحة؟ تقول شقاق:( أري أن اللوحة تظهر السودان بصورة حميمة، وتحتفي بالحياة في احتفالها بالطيور، وتظهر مدي ارتباطنا بها. فالطيور من أكثر الحيوانات المحببة، وتظهر هذه المحبة في الأغاني العاطفية والوطنية وفي القصائد، اللوحات، وفي أغاني وألعاب الأطفال، في الأحاجي والكتابات النوبية القديمة والزخارف والتطريز، لنا معها علاقة قوية تتجاوز الحياة إلي الموت وما بعده. أنظروا اللوحة ربما عثرتم علي طيور أخري لم أذكرها)*. شقاق تشبثت بحريتها، ثم أخذت وضع القراءة والتأويل. السديم يحتدم في سطح اللوحة، ويضج في أعماقها العديدة، جلست هي في إنعطاف الريح، لكأنها غدت في مستوي عينين شاخصتين في وجهة الألوان وإشاراتها، وفي الإشارات، دائما، غموض ودثار محرق، نائيا ومتخفيا في العتمة، لكنه يود أن يكون مرئيا. وليس كل إنطباع شهقة صريحة للبوح والمكابدات، وللفتنة هنا، وجه الفنانة وقلبها، هما معا، بصيرتها المليئة بألوان الغابة بلا حياد ولا مواربة، تتماهي، في عمق رؤياها، برياش الطير واجنحة الفراشات وجنيات البحر والرمل والقواقع، عالم من الألوان. أحذري إذن، يا بنت شقاق، بقدرك المستطاع، جنة التقديس:
أريتنا ما رأيت
قلت ما تحبين لمن يستحقون.
في الولادة والحياة والموت
ثمة ذاكرة بصرية.
ولدي الطيور رأيت التجربة/ ليس من غير دلالة/ تلك العتمة المتوارية في الضوء الشحيح/ أنكشفت أطوار الطيور الآن.
هي تحية إذن، للفنان وللوحة وإليك، وللألوان منها نصيب، كلها الآن في الضوء!
لآ، لم تكن طيورها تسأل، كانت تعرف، أننا سنراها.
---------------------------------------------
* الإقتباسات والإشارات من مقال إيمان شقاق، بملف ( الممر ) بجريدة السوداني الجمعة 21/9/2018م.
* لوحات الطيور للفنانة إيمان شقاق - بالحبر الأسود- مرسومة من تصاوير عالم الأحياء أبوبكر محمد عبدالحليم، وقد كان قد التقطها خلال رحلاته العلمية في مناطق السودان المختلفة الغنية بالطيور. أبوبكر-كما يعرف نفسه- عالم أحياء وتشمل اهتماماته الحفاظ على الحياة البرية وتوثيق مشاهداته من خلال التصوير. مهتم بشكل رئيسي بالزواحف والبرمائيات والعقارب والطيور والثديات الصغيرة وعلم الحشرات بشكل عام.